فصل: سورة محمد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.سورة محمد:

وتسمى سورة القتال.
وهي مدنية عند الأكثرين ولم يذكروا استثناء وعن ابن عباس وقتادة أنها مدنية إلا قوله تعالى: {وكأين من قرية} إلى آخره فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إليه وقال: «أنت أحب بلاد الله تعالى إلي وأنت أحب بلاد الله تعالى إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج منك». فأنزل الله تعالى ذلك فيكون مكيا بناء على أن ما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أعني ما نزل في سفر الهجرة من المكي اصطلاحا كما يؤخذ من أثر أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي بسنده إلى يحيى بن سلام وعدة آيها أربعون في البصري وثلاثون في الكوفي وتسع بالتاء الفوقية وثلاثون فيما عداهما والخلاف في قوله تعالى: {حتى تضع الحرب أوزارها} وقوله تعالى: {لذة للشاربين} ولا يخفى قوة ارتباط أولها بآخر السورة قبلها واتصاله وتلاحمه بحيث لو سقطت من البين البسملة لكانا متصلا واحدا لا تنافر فيه كالآية الواحدة آخذا بعضه بعنق بعض وكان صلى الله تعالى عليه وسلم على ما أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقرؤها في صلاة المغرب.
وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: نزلت سورة محمد آية في بني أمية ولا أظن صحة الخبر نعم لكفار بني أمية الحظ الأوفر من عمومات الآيات التي في الكفار كما أن لأهل البيت رضي الله تعالى عنهم المعلى والرقيب من عمومات الآيات التي في المؤمنين وأكثر من هذا لا يقال سوى أني أقول: لعن الله تعالى من قطع الأرحام وآذى الآل.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)}
{الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي أعرضوا عن الإسلام وسلوك طريقه أو منعوا غيرهم عن ذلك على أن صد لازم أو متعد، قال في الكشف: والأول أظهر لأن الصد عن سبيل الله هو الاعراض عما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {قُلْ هذه سَبِيلِى أَدْعُو إلى الله} [يوسف: 108] فيطابق قوله تعالى: {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَءامَنُواْ بما نُزّلَ على مُحَمَّدٍ} [محمد: 2] وكثير من الآثار تؤيد الثاني، وفسر الضحاك {سَبِيلِ الله} ببيت الله عز وجل، وقال: صدهم عنه منعهم قاصديه وليس بذلك. والآية عامة لكل من اتصف بعنوان الصلة، وقال ابن عباس: هم أي الذين كفروا وصدوا على الوجه الثاني في {صدوا} المطعون يوم بدر الكبرى، وكأنه عني من يدخل في العموم دخولًا أوليًا، فإن أولئك كانوا صادين بأموالهم وأنفسهم فصدهم أعظم من صد غيرهم ممن كفر وصد عن السبيل، وأول من أطعم منهم على ما نقل عن سيرة ابن سيد الناس أبو جهل عليه اللعنة نحر لكفار قريش حين خرجوا من مكة عشرا من الإبل، ثم صفوان بن أمية نحر تسعا بعسفان، ثم سهل بن عمرو نحر بقديد عشرا ثم شيبة بن ربيعة وقد ضلوا الطريق نحر تسعا ثم عبتة بن ربيعة نحر عشرا، ثم مقيس الجمهى بالأبواء نحر تسعا، ثم العباس نحر عشرا، والحرث بن عامر نحر تسعا، وأبو البختري على ماء بدر نحر عشرا، ومقيس تسعا؛ ثم شغلتهم الحرب فأكلوا من أزوادهم، وقيل: كانوا ستة نفر نبيه. ومنبه ابنا الحجاج. وعتبة. وشيبة ابنا ربيعة. وأبو جهل. والحرث ابنا هشام، وضم مقاتل إليهم ستة أخرى وهم عامر بن نوفل. وحكيم بن حزام. وزمعة بن الأسود. والعباس بن عبد المطلب. وصفوان بن أمية. وأبو سفيان بن حرب أطعم كل واحد منهم يومًا الاحابيش والجنود يستظهرون بهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينافي عد أبي سفيان أن صحت الرواية من أولئك كونه مع العير لأن المراد بيوم بدر زمن وقعتها فيشمل من أطعم في الطريق وفي مدتها حتى انقضت، وقال مقاتل: هم اثنا عشر رجلًا من أهل الشرك كانوا يصدون الناس عن الإسلام وأمرونهم بالكفر، وقيل: هم شياطين من أهل الكتاب صدوا من أراد منهم أو من غيرهم عن الدخول في الإسلام.
والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى: {الله أَضَلَّ أعمالهم} أي إبطالها وأحبطها وجعلها ضائعة لا أثر لها ولا نفع أصلًا لا عنى أنه سبحانه أبطلها وأحبطها بعد أن لم تكن كذلك بل عنى أنه عز وجل حكم ببطلانها وضياعها وأريد بها ما كانوا يعملونه من أعمال البر كصلة الأرحام وقرى الأضياف وفك الأساري وغيرها من المكارم.
وجوز أن يكون المعنى جعلها ضلالًا أي غير هدى حيث لم يوفقهم سبحانه لأن يقصدوا بها وجهه سبحانه أو جعلها ضالة أي غير مهتدية على الإسناد المجازي، ومن قال الآية في المطعمين واضرابهم قال: المعنى إبطال جل وعلا ما عملوه من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم كالانفاق الذي أنفقوه في سفرهم إلى محاربته عليه الصلاة والسلام وغيره بنصر رسوله صلى الله عليه وسلم وإظهار دينه على الدين كله، ولعله أوفق بما بعده، وكذا بما قيل أن الآية نزلت ببدر.

.تفسير الآية رقم (2):

{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بما نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)}
{والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} قال ابن عباس فيما أخرجه عنه جماعة منهم الحاكم وصححه هم أهل المدينة الأنصار، وفسر رضي الله تعالى عنه {الذين كَفَرُواْ} [محمد: 1] بأهل مكة قريش، وقال مقاتل: هم ناس من قريش، وقيل: مؤمنو أهل الكتاب، وقيل: أعم من المذكورين وغيرهم فإن الموصول من صيغ العموم ولا داعي للتخصيص {وَءامَنُواْ بما نُزّلَ على مُحَمَّدٍ} من القران، وخص بالذكر الإيمان بذلك مع اندراجه فيما قبله تنويها بشأنه وتنبيهًا على سمو مكانه من بين سائر ما يجب الإيمان به وانه الأصل في الكل ولذلك أكد بقوله تعالى: {وَهُوَ الحق مِن رَّبّهِمْ} وهو جملة معترضة بين المبتدأ والخبر مفيدة لحصر الحقية فيه على طريقة الحصر في قوله تعالى: {ذلك الكتاب} [البقرة: 2] وقولك: حاتم الجواد فيراد بالحق ضد الباطل، وجوز أن يكون الحصر على ظاهره والحق الثابت، وحقية ما نزل عليه عليه الصلاة والسلام لكونه ناسخًا لا ينسخ وهذا يقتضي الاعتناء به ومنه جاء التأكيد، وأيًا ما كان فقوله تعالى: {مّن رَّبّهِمُ} حال من ضمير {الحق} وقرأ زيد بن علي. وابن مقسم {نَزَّلَ} مبنيًا للفاعل، والأعمش {أَنَزلَ} معدى بالهمزة مبنيًا للمفعول. وقرئ {أَنَزلَ} بالهمز مبنيًا للفاعل {وَنُزّلَ} بالتخفيف {كَفَّرَ عَنْهُمْ} أي سترها بالإيمان والعمل الصالح، والمراد إزالها ولم يؤاخذهم بها {سيئاتهم وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي حالهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد، وتفسير البال بالحال مروى عن قتادة وعنه تفسيره بالشأن وهو الحال أيضًا أو ماله خطر، وعليه قول الراغب: الباب الحال التي يكترث بها، ولذلك يقال: ما باليت بكذا بالة أي ما اكترثت به، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «كل أمر ذي بال» الحديث ويكون عنى الخاطر القلبي ويتجوز به عن القلب كما قال الشهاب. وفي البحر حقيقة البال الفكر والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب ومن صلح قلبه صلحت حاله، فكأن اللفظ مشير إلى صلاح عقيدتهم وغير ذلك من الحال تابع له، وحكى عن السفاقسي تفسيره هنا بالفكر وكأنه لنحو ما أشير إليه، وهو كما في البحر أيضًا مما لا يثني ولا يجمع وشذ قولهم في جمعه بالات.

.تفسير الآية رقم (3):

{ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)}
{ذلك} إشارة إلى ما مر من الاضلال والتكفير والاصلاح وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: {بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل وَأَنَّ الذين ءامَنُواْ اتبعوا الحق مِن رَّبّهِمْ} أي ذلك كائن بسبب اتباع الأولين الباطل واتباع الآخرين الحق؛ والمراد بالحق والباطل معناهما المشهور.
وأخرج ابن المنذر. وغيره عن مجاهد تفسير {الباطل} بالشيطان. وفي البحر. قال مجاهد: الباطل الشيطان وكل ما يأمر به و{الحق} هو الرسول والشرع، وقيل: الباطل ما لا ينتفع به، وجوز الزمخشري كون ذلك خبر مبتدأ محذوف و{بِأَنَّ} إلخ في محل نصب على الحال، والتقدير الأمر ذلك أي كما ذكر ملتبسًا بهذا السبب.
والعامل في الحال أما معنى الإشارة وأما نحو أثبته وأحقه فإن الجملة تدل على ذلك لأنه مضمون كل خبر وتعقبه أبو حيان بأن فيه ارتكابًا للحذف من غير داع له، والجار والمجرور أعني {مّن رَّبّهِمُ} في موضع الحال على كل حال، والكلام أعني قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ} إلى قوله سبحانه: {مّن رَّبّهِمُ} تصريح بما أشعر به الكلام السابق من السببية لما فيه من البناء على الموصول، ويسميه علماء البيان التفسير، ونظيره ما أنشده الزمخشري لنفسه:
به فجع الفرسان فوق خيولهم ** كما فجعت تحت الستور العواتق

تساقط من أيديهم البيض حيرة ** وزعزع عن أجيادهن المخانق

فإن فيه تفسيرًا على طريق اللف والنشر كما في الآية وهو من محاسن الكلام {كذلك} أي مثل ذلك الضرب البديع {يَضْرِبُ الله} أي يبين {للناس} أي لأجلهم {أمثالهم} أي أحوال الفريقين المؤمنين والكافرين وأوصافهما الجارية في الغرابة مجرى الأمثال، وهي اتباع المؤمنين الحق وفوزهم وفلاحهم، واتباع الكافرين الباطل وخيبتهم وخسرانهم، وجوز أن يراد بضرب الأمثال التمثيل والتشبيه بأن جعل سبحانه اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار والاضلال مثلا لخيبتهم واتباع الحق مثلًا لعمل المؤمنين وتكفير السيآت مثلا لفوزهم والإشارة بذلك لما تضمنه الكلام السابق، وجوز كون ضمير {أمثالهم} للناس؛ والفاء في قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (4):

{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)}
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ} لترتيب ما في حيزها من الأمر على ما قبلها فإن ضلال أعمال الكفرة وخيبتهم وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم مما يوجب أن يترتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام أي إذا كان الأمر كذلك فإذا لقيتموهم في المحارب {فَضَرْبَ الرقاب} وقال الزمخشري: {لَقِيتُمُ} من اللقاء وهو الحرب و{ضُرِبَ} نصب على المصدرية لفعل محذوف والأصل أضربوا الرقاب ضربًا فحذف الفعل وقدم المصدر وأنيب منابه مضافًا إلى المفعول، وحذف الفعل الناصب في مثل ذلك مما أضيف إلى معموله واجب، وهو أحد مواضع يجب فيها الحذف ذكرت في مطولات كتب النحو، وليس منها نحو ضربًا زيدًا على ما نص عليه ابن عصوفر.
وذكر غير واحد أن فيما ذكر اختصارًا وتأكيدًا ولا كلام في الاختصار، وأما التأكيد فظاهر القول به أن المصدر بعد حذف عامله مؤكد، وقال الحمصي في حواشي التصريح: إن المصدر في ذلك مؤكد في الأصل وأما الآن فلا لأنه صار نزلة الفعل الذي سد هو مسده فلا يكون مؤكدًا بل كل مصدر ثار بدلًا من اللفظ بالفعل لا يكون مؤكدًا ولا مبينًا لنوع ولا عدد، و{ضُرِبَ الرقاب} مجاز مرسل عن القتل، وعبر به عنه إشعارًا بأنه ينبغي أن يكون بضرب الرقبة حيث أمكن وتصويرًا له بأشنع صورة لأن ضرب الرقبة فيه إطارة الرأس الذي هو أشرف أعضاء البدن ومجمع حواسه وبقاء البدن ملقى على هيئة منكرة والعياذ بالله تعالى، وذكر أن في التعبير المذكور تشجيع المؤمنين وأنهم منهم بحيث يتمكنون من القتل بضرب أعناقهم في الحرب {حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ} أي أوقعتم القتل بهم بشدة وكثرة على أن ذلك مستعار من ثخن المائعات لمنعه عن الحركة، والمراد حتى إذ أكثرتم قتلهم وتمكنتم من أخذ من لم يقتل {فَشُدُّواْ الوثاق} أي فأسروهم واحفظوهم، فالشد وكذا ما بعد في حق من أسر منهم بعد اثخانهم لا للمثخن إذ هو بالمعنى السابق لا يشد ولا يمن عليه ولا يفدي لأنه قد قتل أو المعنى حتى إذا أثقلتموهم بالجراح ونحوه بحيث لا يستطيعون النهوض فأسروهم واحفظوهم؛ فالشد وكذا ما بعد في حق المثخن لأنه بهذا المعنى هو الذي لم يصل إلى حد القتل لكن ثقل عن الحركة فصار كالشيء الثخين الذي لم يسل ولم يستمر في ذهابه، والاثخان عليه مجاز أيضًا، و{الوثاق} في الأصل مصدر كالخلاص وأريد به هنا ما يوثق به. وقرئ {الوثاق} بالكسر وهو اسم لذلك، ومجيء فعال اسم آلة كالحزام والركاب نادر على خلاف القياس، وظاهر كلام البعض أن كلا من المفتوح والمكسور اسم لما يوثق به، ولعل المراد بيان المراد هنا.
{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} أي فاما تمنون منا وإما تفدون فداء، والكلام تفصيل لعاقبة مضمون ما قبله من شد الوثاق، وحذف الفعل الناصب للمصدر في مثل ذلك واجب أيضًا، ومنه قوله:
لأجهدن فاما درء واقعة ** ثخشى وإما بلوغ السؤال والامل

وجوز أبو البقاء كون كل من {مِنَّا} و{فداء} مفعولا به لمحذوف أي أولوهم منا أو أقبلوا منهم فداء، وليس كما قال أبو حيان اعراب نحوي، وقرأ ابن كثير في رواية شبل {وَأَمَّا فدى} بالفتح والقصر كعصا. وزعم أبو حاتم أنه لا يجوز قصره لأنه مصدر فاديته، قال الشهاب: ولا عبرة به فإن فيه أربع لغات الفتح والكسر مع المد والقصر ولغة خامسة البناء مع الكسر كما حكاه الثقات انتهى، وفي الكشف نقلًا عن الصحاح الفداء إذا كسر أوله يمد ويقصر وإذا فتح فهو مقصور. ومن العرب من يكسر الهمزة أي يبنيه على الكسر إذا جاور لام الجر خاصة لأنه اسم فعل عنى الدعاء، وأنشد الأصمعي بين النابغة:
مهلًا فداء لك

وهذا الكسر مع التنوين كما صرح به في البحر، وظاهر الآية على ما ذكره السيوطي في أحكام القرآن العظيم امتناع القتل بعد الأسر وبه قال الحسن. وأخرج ابن جرير. وابن مردويه عنه أنه قال: أتى الحجاج بأسارى فدفع إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رجلًا يقتله فقال ابن عمر: ليس بهذا أمرنا إنما قال الله تعالى: {حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} وفي حكم الأساري خلاف فذهب الأكثرون إلى أن الإمام بالخيار إن شاء قتلهم إن لم يسلموا لأنه صلى الله عليه وسلم قتل صبرا عقبة بن أبي معيط. وطعيمة بن عدى. والنضر بن الحرث التي قالت فيه أخته أبياتًا منها تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:
ما كان ضرك لو مننت وربما ** من الفتى وهو المغيظ المحنق

وون في قتلهم حسم مادة فسادهم بالكلية، وليس ولحاد من الغزاة أن يقتل أسيرًا بنفسه فإن فعل بلا ملجئ كخوف شر الأسير كان للإمام أن يعزره إذا وقع على خلاف مقصوده ولكن لا يضمن شيئًا، وإن شاء استرقهم لأن فيه دفع شرهم مع وفور المصلحة لأهل الإسلام، وإن شاء تركهم ذمة أحرارًا للمسلمين كما فعل عمر رضي الله تعالى عنه ذلك في أهل السواد الا أسارى مشركي العرب والمرتدين فإنهم لا تقبل منهم جزية ولا يجوز استراقاتهم بل الحكم فيهم إما الإسلام أو السيف، وإن أسلم الأساري بعد الأسر لا يقتلهم لاندفاع شرهم بالإسلام، ولكن يجوز استراقاتهم فإن الإسلام لا ينافي الرق جزاء على الكفر الأصلي وقد وجد بعد انعقاد سبب الملك وهو الاستيلاء على الحربي غير المشرك من العرب، بخلاف ما لو أسلموا من قبل الأخذ فإنهم يكونون أحرارًا لأنه اسلام قبل انعقاد سبب الملك فيهم، ولا يفادي بالاساري في احدى الروايتين عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لما في ذلك من معونة الكفر لأنه يعود الأسير الكافر حربًا علينا، ودفع شر حرابته خير من استنقاذ المسلم لأنه إذا بقي في أيديهم كان ابتلاء في حقه فقط، والضرر بدفع أسيرهم إليهم يعود على جماعة المسلمين.
والرواية الأخرى عنه أنه يفادي وهو قول محمد. وأبي يوسف. والإمام الشافعي. ومالك. وأحمد إلا بالنساء فإنه لا يجوز المفاداة بهن عندهم، ومنع أحمد المفاداة بصبيانهم، وهذه رواية السير الكبير، قيل: وهو أظهر الروايتين عن الإمام أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: تجوز المفاداة بالأسارى قبل القسمة لا بعدها، وعند محمد تجوز بكل حال. ووجه ما ذكره الأئمة من جواز المفاداة أن تخليص المسلم أولى من قتل الكافر للانتفاع به ولأن حرمته عظيمة وما ذكر من الضرر الذي يعود إلينا بدفعه إليهم يدفعه ظاهرًا المسلم الذي يتخلص منهم لأنه ضرر شخص واحد فيقوم بدفعه واحد مثله ظاهرًا فيتكافئان وتبقى فضيلة تخليص المسلم وتمكينه من عبادة الله تعالى فإن فيها زيادة ترجيح.
ثم أنه قد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرج مسلم. وأبو داود. والترمذي. وعبد بن حميد. وابن جرير عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين ويحتج لمحمد بما أخرجه مسلم أيضًا عن إياس بن سلمة عن أبيه سلمة قال: خرجنا مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه أمره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق فقال: يا سلمة هب لي المرأة يعني التي نقله أبو بكر إياها فقلت: يا رسول الله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبًا، ثم لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق فقال: «يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك» فقلت: هي لك يا رسول الله فوالله ما كشفت لها ثوبًا فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ففدى بها ناسًا من المسلمين أسروا كة، ولا يفادي بالأسير إذا أسلم وهو بأيدينا لأنه لا يفيد إلا إذا طابت نفسه وهو مأمون على إسلامه فيجوز لأنه يفيد تخليص مسلم من غير إضرار سلم آخر، وأما المفاداة ال فلا تجوز في المشهور من مذهب الحنفية لما بين في المفاداة بالمسلمين من ردهم حربًا علينا.
وفي السير الكبير أنه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة، قيل: استدلالًا بأساري بدر فإنه لا شك في احتياج المسلمين بل في شدة حاجتهم إذ ذاك فليكن محمل المفاداة الكائنة في بدر بالمال، وأما المن على الأساري وهو أن يطلقهم إلى دار الحرب من غير شيء فلا يجوز عند أبي حنيفة. ومالك. وأحمد، وأجازه الإمام الشافعي لأنه صلى الله عليه وسلم من على جماعة من أسرى بدر منهم أبو العاص بن أبي الربيع على ما ذكره ابن إسحق بسنده. وأبو داود من طريقه إلى عائشة لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص ال وبعثت فيه بقلادة كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنائه عليها فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك رق لها رقة شديدة وقال لأصحابه: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرنا وتردوا لها الذي لها» ففعلوا ذلك مغتبطين به، ورواه الحاكم وصححه وزاد «وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه أن يخلي زينب إليه ففعل» ومن صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن أثال بن النعمان الحنفي سيد أهل اليمامة ثم أسلم وحسن إسلامه، وحديثه في صحيح مسلم عن أبي هريرة، ويكفي ما ثبت في صحيح البخاري من قوله عليه الصلاة والسلام: «لو كان المطعم بن عدي حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتني يعني أساري بدر لتركتهم له» فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر وهو الصادق المصدوق بأنه يطلقهم لو سأله المطعم، والإطلاق على ذلك التقدير لا يثبت إلا وهو جائز شرعًا لمكان العصمة، وكونه لم يقع لعدم وقوع ما علق عليه لا ينفي جوازه شرعًا.
واستدل أيضًا بالآية التي نحن فيها فإن الله تعالى خير فيها بين المن والفداء، والظاهر أن المراد بالمن الإطلاق مجانًا؛ وكون المراد المن عليهم بترك القتل وإبقاءهم مسترقين أو تخليتهم لقبول الجزية وكونهم من أهل الذمة خلاف الظاهر، وبعض النفوس يجد طعم الإلاء أحلى من هذا المن.
وأجاب بعض الحنفية بأن الآية منسوخة بقوله تعالى: {اقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] من سورة براءة فإنه يقتضي عدم جواز المن وكذا عدم جواز الفداء وهي آخر سورة نزلت في هذا الشأن، وزعم أن ما وقع من المن والفداء إنما كان في قضية بدر وهي سابقة عليها وإن كان شيء من ذلك بعد بدر فهو أيضًا قبل السورة.
والقول بالنسخ جاء عن ابن عباس. وقتادة. والضحاك. ومجاهد في روايات ذكرها الجلال السيوطي في الدر المنثور، وقال العلامة ابن الهمام: قد يقال إن ذلك يعني ما في سورة براءة في حق غير الأساري بدليل جواز الاسترقاق فيهم فيعلم أن القتل المأمور به في حق غيرهم، وما ذكره في جواز الاسترقاق ليس على إطلاقه إذ لا يجوز كما علمت استرقاق مشركي العرب {حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا} أي آلاتها وأثقالها من السلاح وغيره، قال الأعشى:
وأعددت للحرب أوزارها ** رماحًا طوالًا وخيلًا ذكورا

ومن نسج داود موضونة ** تساق إلى الحرب عيرًا فعيرا

وهي في الأصل الأحمال فاستعيرت لما ذكر استعارة تصريحية، ويجوز أن يكون في {الحرب} استعارة مكنية بأن تشبه بإنسان يحمل حملًا على رأسه أو ظهره ويثبت لها ما أثبت تخييلًا، وكلام الشكاف أميل إليه، وقيل: هي أحمال المحارب أضيفت للحرب تجوزًا في النسبة الإضافية وتغليبًا لها على الكراع، وإسناد الوضع للحرب مجازي أيضًا وليس بذاك. وعد بعض الأماثل الكلام تمثيلًا، والمراد حتى تنقضي الحرب وقال: يجوز أن يكون إرادة ذلك من باب المجاز المتفرع على الكناية كما في قوله:
فألقت عصاها واستقر بها النوى

فإنه كنى به عن انقضاء السفر والإقامة، وقيل: الأوزار جمع وزر عنى إثم وهو هنا الشرك والمعاصي، {وَتَضَعُ} عنى تترك مجازًا، وإسناده للحرب مجاز أو بتقدير مضاف، والمعنى حتى يضع أهل الحرب شركهم ومعاصيهم، وفيه أنه لا يستحسن إضافة الأوزار عنى الآثام إلى الحرب، و{حتى} عند الشافعي عليه الرحمة ومن قال نحو قوله: غاية للضرب، والمعنى اضربوا أعناقهم حتى تنقضي الحرب، وليس هذا بدلًا من الأول ولا تأكيدًا له بناء على ما قرروه من أن حتى الداخلة على إذا الشرطية ابتدائية أو غاية للشد أو للمن والفداء معًا أو للمجمع من قوله تعالى: {فَضَرْبَ الرقاب} إلخ عنى أن هذه الأحكام جارية فيهم حتى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم، وقيل: بنزول عيسى عليه السلام، وروى ذلك عن سعيد بن جبير. والحسن، وفي الحديث ما يؤيده. أخرج أحمد. والنسائي. وغيرهما عن سلمة بن نفيل قال: بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله إن الخيل قد سيبت ووضع السلاح وزعم أقوام أن لا قتال وإن قد وضعت الحرب أوزارها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبوا فالآن جاء القتال ولا تزال طائفة من أمتي يقاتلون في سبيل الله لا يضرهم من خالفهم يزيغ الله تعالى قلوب قوم ليرزقهم منهم وتقاتلون حتى تقوم الساعة ولاتزال الخيل معقودًا في نواصيها الخير حتى تقوم الساعة ولا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج» وهي عند من يقول: لا من ولا فداء اليوم غاية للمن والفداء إن حمل على الحرب على حرب بدر بجعل تعريفه للعهد، والمعنى المن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها، وغاية للضرب والشد إن حملت على الجنس، والمعنى أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب أوزارها بأن لا يبقى للمشركين شوكة، ولا تجعل غاية للمن والفداء مع إرادة الجنس.
وفي زعم جوازه والتزام النسخ كلام فتأمل {ذلك} أي الأمر ذلك أو افعلوا ذلك فهو في محل رفع خبر مبتدأ محذوف أو في محل نصب مفعول لفعل كذلك، والإشارة إلى ما دل عليه قوله تعالى: {فَضَرْبَ الرقاب} إلخ لا إلى ما تقدم من أول السورة إلى هاهنا لأن افعلوا لا يقع على جميع السالف وعلى الرفع ينفك النظم الجليل إن لم يحمل عليه لأن ما بعد كلام فيهم {وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ} لانتقم منهم ببعض أسباب الهلاك من خسف أو رجفة أو غرق أو موت جارف {ولكن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} ولكن أمركم سبحانه بالقتال ليبلو المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم فينالوا الثواب ويخلد في صحف الدهر ما لهم من الفضل الجسيم والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم عز وجل ببعض انتقامه سبحانه فيتعظ به بعض منهم ويكون سببًا لاسلامه؛ واللام متعلق بالفعل المقدر الذي ذكرناه {والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} أي استشهدوا.
وقرأ الجمهور {قَاتَلُواْ} أي جاهدوا، والجحدري بخلاف عنه {قاتلوا} بفتح القاف والتاء بلا ألف، وزيد بن ثابت. والحسن. وأبو رجاء. وعيسى. والجحدري أيضًا {قاتلوا} بالبناء للمفعول وشد التاء.
{فَلَن يُضِلَّ أعمالهم} فلن يضيعها سبحانه، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه {يُضِلَّ} مبنيًا للمفعول {أعمالهم} بالرفع على النيابة عن الفاعل. وقرئ {يُضِلَّ} بفتح الياء من ضل {أعمالهم} بالرفع على الفاعلية. والآية قال قتادة: كما أخرجه عنه ابن جرير. وابن أبي حاتم ذكرنا لنا أنها نزلت في يوم أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب وقد فشت فيهم الجراحات والقتل وقد نادى المشركون يومئذ أعل هبل ونادى المسلمون الله أعلى وأجل فنادى المشركون يوم بيوم بدر وإن الحرب سجال لنا عزى ولا عزى لكن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله مولانا ولا مولى لكم إن القتلى مختلفة أما قتلانا فأحياء مرزوقون وأما قتلاكم ففي النار يعذبون» ومنه يعلم وجه قراءة {قاتلوا} بصيغة التفعيل.